"ضمانات المتهم أثناء مرحلة التحقيق الابتدائي في النظام السعودي "" دراسة مقارنة """
ممدوح رشيد الرشيد العنزي القاهرة الحقوق العلوم الجنائية دكتوراه 2009
"1- تشتمل الإجراءات الجنائية على : مجموعة القواعد التي تبين الإجراءات الواجبة الإتباع، بهدف التحقق من وقوع الجريمة ، وضبط مرتكبها، وتقديمه لجهات التحقيق ، والمحاكمة. كما تهدف هذه الإجراءات إلى حماية المجتمع من خطر المجرمين، والكشف عن مرتكبي الجرائم، وإنزال العقاب بهم، وفي ذات الوقت حماية البريء من أن يدان دون وجه حق، وأيضاً حماية المتهم من أن تتخذ ضده إجراءات فيها امتهان لكرامته الإنسانية، وحمايته من عقوبة أشد من تلك التي يستحقها؛ ومن ثم يتطلب التحقيق إجراءات متأنية تتعدد فيها الضمانات، وفي الوقت ذاته تكفل فيها فرص الدفاع( ).
وتعد مرحلة التحقيق الابتدائي من أكثر المراحل تعقيداً في الدعوى الجنائية؛ نظراً لتنوع إجراءاتها، وتعدد الجهات التي تقوم بها، فضلاً عن كونها مرحلة تتعرض فيها حقوق ، وحريات الأفراد للمساس بها، فتتقيد حرية المتهم بالحبس الاحتياطي، وتنكشف أسراره، ويتعرض مسكنه وشخصه للتفتيش، ورغم ذلك كله قد ينتهى التحقيق في النهاية إلى حفظ الدعوى، أو الأمر بأنه لا وجه لإقامتها ، أو ببراءة المتهم في النهاية. فمثل تلك الإجراءات _ بلا شك_ فيها مساس بحريات الأفراد، وتشكل افتئاتاً على حرمة المسكن ، والحقوق الأخرى؛ ومن ثم يجب إحاطتها بسياج منيع من الضمانات؛ وذلك لكي تمارس هذه الإجراءات بشكل يضمن الموازنة بين حق المجتمع في الوصول للحقيقة، وحق المتهم في حمايته من تعسف السلطة؛ إذ إن غاية التحقيق هي معرفة الحقيقة ، والوصول إليها، وهذا ما ينشده المجتمع، دون أدنى مساس بأصل البراءة، والذي يُعدّ حقاً أساسياً للفرد. ومن ثم ينبغي على القائمين بالتحقيق عدم الاعتداء على أي فرد خاضع للتحقيق دون وجه حق؛ لأن الاعتداء على أي فرد، ولو كان متهماً، هو اعتداء على المجتمع بأكمله، ومن ثم لابد من إقامة التوازن بين مصلحة المجتمع ، ومصلحة الفرد؛ إذ لا يمكن الاعتداء على حريات الأفراد، إلا إذا كانت هناك أدلة مؤكدة على ارتكاب الشخص فعلاً يعده القانون جريمة، ومع ذلك فإن القانون يحمي المتهم في ذات الوقت من أية تجاوزات( ).
فإجراءات التحقيق عادةً لا تتخذ إلا في حالة وقوع جريمة، ينشأ بناءً عليها حق الدولة في معاقبة الجاني؛ لاقتضاء حقها في العقاب، إلا أن ذلك لا يعني عدم اتباع إجراءات معينة، ولكن يجب مراعاتها منذ لحظة تلقي سلطات الدولة بلاغاً عن الجريمة المرتكبة؛ إذ تقوم بعد ذلك بمهمة البحث ، والتحري عن الفاعل، ثم توجيه الاتهام إليه، بعد أن تثار حوله الشبهات التي تدل على أنه ضالع في الجريمة، ثم التحقيق معه، وفحص الأدلة المقدمة ضده حتى إذا ما ارتأت سلطة التحقيق كفاية هذه الأدلة أحالته إلى القضاء لتوقيع العقاب عليه. واتخاذ مثل هذا لا يعني تهديد الأبرياء أو الاعتداء على الآمنين في حرياتهم؛ إذ إن الناس سواسية أمام القانون مصداقاً لحديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ""الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى""، ومن ثم تفترض في جميعهم البراءة إلى حين إثبات الإدانة من قبل سلطة التحقيق. ورغم أن العدالة تقتضي السرعة في الإجراءات، إلا أن ذلك يجب أن لا يكون مبالغاً فيه لدرجة تخل بحق المتهم في الدفاع عن نفسه( ).
وبناءً على ذلك ينبغي أن تحاط إجراءات التحقيق بضمانات تقي المتهم من تعسف السلطة المختصة بالتحقيق. ومن ثم فقد حرصت الدساتير في الدول المختلفة، والإعلانات الدولية، واتفاقيات حقوق الإنسان، على تضمين نصوصها مجموعة من الضمانات المتعلقة بحماية المتهم. ومن أولى هذه الضمانات التأكيد على مبدأ : ""الأصل في المتهم البراءة""، والذي يلازم المتهم طوال فترة الإجراءات المتخذة ضده، إلى حين صدور حكم بات بالإدانة، وأن تبنى الأحكام الجنائية على الجزم واليقين ، لا على مجرد الشك، وأن الشك يجب أن يفسر لصالح المتهم. وأيضاً تعويض المتهم تعويضاً عادلاً في حالة حبسه احتياطياً، ومن ثم صدور قرار بأنه لا وجه لإقامة الدعوى، أو صدور حكم بالبراءة. وأيضاً مدى كفالة حماية حياته الخاصة، وحرمة مسكنه، والمحافظة على كرامته، وعدم استخدام وسائل الإكراه ضده.
2- تبرز أهمية دراسة ""ضمانات المتهم أثناء مرحلة التحقيق الابتدائي في النظام السعودي ـ دراسة مقارنة"" في تنوع الإجراءات التي تتخذ خلال هذه المرحلة، وتعدد الجهات التي تقوم بها؛ فالمحقق يملك اتخاذ إجراءات عديدة في سبيل الوصول إلى الحقيقة، وهذه الإجراءات في أغلب الأحوال تُتَّخذ ضد المتهم، وتمس حياته الخاصة وحريته، وذلك قبل أن تثبت إدانته أو براءته. والمحقق ينوء بهذا العبء كضريبة يدفعها لكونه أحد أفراد المجتمع الذين أضُيروا من الجريمة. إضافةً إلى أن المتهم خلال هذه المرحلة يواجه الاتهام بشكل أكثر جدية من قبل السلطة المختصة بالتحقيق، كما أنه يعتبر الطرف الأضعف في العلاقة الجنائية؛ إذ يواجه خلال هذه المرحلة مجموعة من الإجراءات التي تتسم بالجبر والقهر والاعتداء على حرياته، والتي تزايدت بشكل ملموس في وقتنا الحاضر، إما من خلال الواقع العملي أو من خلال القصور في نصوص القانون. ولذلك فإن المتهم بحاجه إلى قدر كبير من الضمانات التي تمثل له سياجاً حصيناً من أي اعتداء عليه، وذلك بهدف الوصول إلى الحقيقة.
ومما لاشك فيه أن الوصول إلى الحقيقة مسألة دقيقة، تتلاقى عندها المصالح المتعارضة : مصلحة المجتمع في الوصول للحقيقة وتوقيع الجزاء على مرتكب الجريمة، ومصلحة المتهم في دفع عبء الاتهام الموجه إليه. ونظراً للتطور الهائل الذي يشهده العالم اليوم من تقدم تكنولوجي يرتبط بحياة الإنسان؛ كاستخدامه للحاسب الآلي والبريد الإلكتروني وجهاز النقال (الهاتف المحمول)، وهي أمورٌ يعتمد عليها الإنسان في حياته بشكل يومي، فإن ذلك يُفضى إلى ضرورة أن تحاط تلك الأمور بمجموعة من الضمانات، لحمايتها من الاطلاع عليها، باعتبارها من خصوصيات الفرد، وأيضاً عدم الاعتداء عليها وعدم تفتيشها إلا بأمر مسبب له فائدة في كشف الحقيقة، ويكون بشأن جريمة مرتكبة، وأن يتم ذلك بحضور المتهم لا في غيبته. إضافةً إلى أن هناك ضمانات يجب توافرها للمتهم؛ منها حقه في الدفاع، والعلم بالتهمة المنسوبة إليه، وحقه في المحافظة على أسراره، وحماية مسكنه من الاعتداء دون مبرر أو سبب قانوني، وفي ذات الوقت توضيح كيفية مباشرة تفتيش الأجهزة وجمع الأدلة المتعلقة بالجريمة المرتكبة بواسطتها.
من ثَمّ وجب على الشارع أن يضع الحدود التي تقف عندها سلطة الدولة، لكي لا تنتهك هذه الضمانات؛ إذ إن المجتمع يهمه معرفة الحقيقة والوصول إلى فاعلها، والمتهم له مصلحة في حماية حقوقه وحرياته، وذلك لا يتحقق إلا بإقامة الموازنة بين مصلحة المجتمع ومصلحة المتهم، لذا فإن الدول تبين عادةً حدودها القانونية التي يجب على الأفراد مباشرتها، وتحدد الأفعال التي ينبغي عليهم الامتناع عنها، وعلى ذلك فإن أي تعدٍ على هذه الحدود يعد جريمة تستوجب توقيع العقاب على مرتكبها.
3- يرجع سبب اختيار الباحث لهذا الموضوع : ""ضمانات المتهم أثناء مرحلة التحقيق الابتدائي في النظام السعودي ـ دراسة مقارنة"" إلى حاجة المكتبة القانونية في المملكة العربية السعودية لمثل هذه الدراسة، خاصةً بعد إنشاء هيئة التحقيق والادعاء العام( )، وصدور نظام الإجراءات الجزائية( )؛ إذ أحدث النظام الإجرائي السعودي نقلة نوعية، جعلته يرتقى إلى مصاف التشريعات التي سبقته، إذ إنه لم يُوجد في السابق نظام موحد لمعالجة الإجراءات الجنائية التي كانت عبارة عن مجموعة تعاميم متناثرة. ونظراً لأهمية ""ضمانات المتهم أثناء التحقيق الابتدائي"" ، فقد ارتأى للباحث دراسة مثل هذه الضمانات، لمعالجة أكبر قدر ممكن منها، في محاولة لإيضاح جوانب القصور التي شابت نظام الإجراءات الجزائية السعودي، ومعالجة هذا القصور، بما يكفل حماية أكبر للمتهم، لاسيما وأنه الطرف الأضعف في العلاقة الجنائية. وأيضاً ما حدث من تغيير بعد إنشاء هيئة التحقيق والادعاء العام، والتي أصبحت هي الجهة المختصة بالتحقيق الابتدائي في المملكة؛ إذ كان المتبع سابقاً، أن تتولى الشرطة القيام بالاستدلال، والتحقيق معاً. ولكن بعد إنشاء هذه الهيئة، أصبحت الشرطة تختص بمرحلة الاستدلال .
إضافةً إلى ما سبق، لا ننسى بدورنا ما أحدثه المشرع المصري من بعض التعديلات على نصوص قانون الإجراءات الجنائية ""القانون رقم 145، لسنة 2006م"". والتي تدل بلا شك على اهتمام المشرع بتوفير أكبر قدر ممكن من الضمانات، والحماية للمتهم. ومن هذه التعديلات، ما شملته المادة (124) من قانون الإجراءات الجنائية، والتي بينت أنه لا يجوز استجواب المتهم في الجنايات والجنح المعاقب عليها بالحبس وجوباً إلا بعد دعوة محاميه، فإذا لم يكن له محام، فإن المحقق يندب له محامياً. وأيضاً المادة (134) والتي بينت أن قاضي التحقيق لا يصدر أمره بحبس المتهم احتياطياً إلا إذا توافرت هناك حالات أو دواعٍ لذلك( ). وأيضاً أضيفت، إلى قانون الإجراءات الجنائية، مادة جديدة برقم (312) والتي بموجبها تكفل الدولة تعويضاً مادياً عن الحبس الاحتياطي، في حالة الحكم ببراءة المتهم، وفي حالة صدور أمر بأنه لا وجه لإقامة الدعوى، إضافةً إلى نشر الحكم بالبراءة في جريدتين واسعتي الانتشار على نفقة الحكومة، وذلك إما بناءً على طلب النيابة العامة أو المتهم أو أحد ورثته. كل هذه الأسباب أسهمت في اختيار الباحث لموضوع ""ضمانات المتهم أثناء مرحلة التحقيق الابتدائي في النظام السعودي ـ دراسة مقارنة"".
يُضاف إلى ما تقدم أن المنظم السعودي قد وفر الكثير من الضمانات للمتهم في نظام الإجراءات الجزائية الجديد، إلا أن هناك بعض الجوانب التي تحتاج إلى إيضاح، كما أن بعض الضمانات تحتاج إلى النص عليها فيه، وبذلك تكون دراسة هذا النظام، ومقارنته بغيره من القوانين، لها أثر طيب على تعديله، وتطويره.
4- قبل الحديث عن منهج دراستي لهذا الموضوع، ينبغي أن أوضح الصعوبة التي واجهت الباحث إبان إعداد الدراسة، إذ يبدو أن موضوعها من السهولة بمكان، سواء من جوانبه التشريعة أو الفقهية أو القضائية، غير أن الباحث قد واجه صعوبة بالغة في تناول موضوع البحث، تمثلت في ندرة المراجع العامة، والمتخصصة، والتي تناولت بالشرح أحكام نظام الإجراءات الجزائية السعودي؛ مما أدَّى إلى الاعتماد، بعد الله سبحانه وتعالى، على نصوص المواد، وعلى مشروع اللائحة التنفيذية للنظام.
وعلى ذلك سأعتمد في دراستي لهذا البحث على الأسلوب التحليلي التأصيلي لنصوص المواد القانونية، في نظام الإجراءات الجزائية السعودي، مقارنةً بالقانونين المصري، والفرنسي، كأساس للدراسة، مع التطرق أحياناً لبعض القوانين الأخرى، إذ رأيت لذلك مقتضى، وذلك لمحاولة فهم أبعادها ومدى قصد المشرع منها، وذلك من خلال الاطلاع عليها وفحصها بموضوعية لاستجلاء حقيقتها وتحديد موقفه منها.
5- قُمتُ تقسيم هذه الدراسة إلى فصل تمهيدي وبابين، وقد تحدثت في الفصل التمهيدي عن ""ماهية التحقيق الابتدائي""، ثم تناولت في الباب الأول ""الضمانات العامة للمتهم أثناء التحقيق الابتدائي""، وقد قسَّمته إلى فصلين، هما: الفصل الأول : الضمانات المتعلقة بحماية المتهم، والفصل الثاني: ضمانات المتهم المستمدة من خصائص التحقيق الابتدائي.
وأما الباب الثاني، فعنوانه: ""الضمانات الخاصة للمتهم أثناء مرحلة التحقيق الابتدائي""، وقد قسَّمته إلى فصلين، هما : الفصل الأول : ضمانات الدفاع عن المتهم، والفصل الثاني : ضمانات عدم المساس بحرمة حياة المتهم الخاصة وحريته.
ثم أعقبت البابين بخاتمة متضمنة أهم النتائج، والتوصيات التي تم التوصل إليها، ثم أتبعتها بقائمة المراجع التي تم الاعتماد عليها في الدراسة، ثم فهرس تفصيلي شامل للبحث."
بيانات الكاتب
